الآن يا عمر ... وقفات في سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
الآن يا عمر ... وقفات في سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
((أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك»
فقال له عمر: فإنه الآن، والله، لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»)). رواه البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن هشام.
ربما تقرأ هذا
الخبر فتتعحب كيف يصدر مثل هذا القول من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-،
الرجل الثاني في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر الصديق رضي
الله عنه.
يقولها ببساطة وصراحة: (يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي)
تعيد القراءة فيعود إليك التعجب، لكن حقيقة الأمر أنه كيف لا يقولها مثل عمر !
هذه الجملة العجيبة الصادقة إن دلت فإنها تدل على قدر ومكانة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
تدل على صدقه مع الله ورسوله … وما أسرع ما يجد الصادق علاجًا لأمره بمجرد وقوفه عليه، وتبينه لضرورة تداركه.
وهذا ما حصل هنا مع عمر رضي الله عنه
فيا للعجب، في ثوان معدودة … كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، وشهد له رسوله وأقره بقوله: (الآن يا عمر)
وعمر رضي الله عنه
يعلم جيدًا حقيقة هذه العبارة وحقيقة مقتضياتها فمن حقق هذه المرتبة لا
يمكن أن يُقدم محاب نفسه على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(الآن يا عمر)
قالها النبي صلى
الله عليه وسلم لصاحبه شاهدًا له على تحقيق كمال محبته، ومحبة النبي صلى
الله عليه وسلم تابعة لمحبة الله عز وجل ومن لوازمها، فكمال اتباع النبي
صلى الله عليه وسلم من كمال محبة الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني}
وهو والله ابتلاء
شديد ومكانة عالية لا تلبث الأيام حتى تثبت صدق دعواك بها، وقد أثبتت صدق
عمر رضي الله عنه على طيلة حياته فيما سنعرضه مع هذه الوقفات بإذن الله.
لكني أريد أن أعود مرة أخرى أمام مقولة عمر رضي الله عنه: (يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي)
كيف يمكننا أن نبلغ هذه الدرجة من الصدق والوعي بأنفسنا حتى نحدد بالضبط، ونشير بأصابعنا إلى موضع العلة منا؟
أي شيء نقدم محبته على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أم أنه غرتنا الشعارات البراقة والكلمات الرنانة وقولنا في المحافل: (فداك أبي وأمي ونفسي يا رسول الله)؟
ثم إذا دُعينا إلى
ميدان العمل قدمنا كل شيء على تحقيق اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى
ما عاد بإمكاننا التمييز بالضبط، أين تكمن المشكلة ؟!
الآن يا عمر …
فكيف بدأت قصة عمر رضي الله عنه مع الإسلام وكيف بلغ فيه ما بلغ من فضل وقدر، وكيف أعز الله به الإسلام ؟!
عُرف عمر رضي الله عنه قبل إسلامه بعداوته الشديدة للإسلام والمسلمين، وتأخر إسلامه لما بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة
((قالت ليلى أم عبد الله بن عامر بن ربيعة: "
كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا
للخروج إلى أرض الحبشة، جاءني عمر بن الخطاب، وأنا على بعيري أريد أن أتوجه
فقال:
أين يا أم عبد الله؟
فقلت: آذيتمونا في ديننا، فنذهب في أرض الله، حيث لا نؤذى في عبادة الله،
قال: صحبكم الله،
ثم ذهب، فجاءني زوجي عامر بن ربيعة، فأخبرته بما رأيته من رقة عمر،
فقال: ترجين أن يسلم؟
فقلت: نعم،
فقال: والله لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب". رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصحح الهيثمي في مجمع الزوائد إسناده.
هكذا قال عامر بن ربيعة وصارت كلمته مثلا: (لا يُسلِم عمر بن الخطاب حتى يُسلم حمار الخطاب)!
لكن الله عز وجل
الذي أحاط علما بكل شيء، والذي يعلم السر وأخفى، ويصطفي من عباده من يشاء،
ويعلم ما انطوت عليه قلوبهم من خير أو شر، اصطفى عبده عمر بن الخطاب!
ولم يكن الأسبق في إسلامه من بعض الصحابة … لكنه سبق فيما بعد وذلك فضل الله يعطيه من يشاء !
كان إسلامه استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اللهم أعزّ الدين بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو عمر بن الخطاب)).
فكان أحبهما إليه عمر بن الخطاب). رواه الترمذي وابن حبان.
فكان أحب الرجلين
إلى الله عمر بن الخطاب، واستجاب الله دعوة رسوله وأعز به الإسلام منذ
إعلانه إسلامه وحتى وفاته بل وما زلنا نشهد آثار هذه العزة حتى يومنا هذا
…!
فلما أسلم عمر رضي الله عنه، سعى لنشر خبر إسلامه بين المشركين، لا يخشى أذاهم، ولا يخاف في الله لومة لائم
سأل عمر عن أكثر الناس إنشاء للحديث، ونشرا للأخبار فقيل له: جميل بن معمر الجمحي، فخرج إليه وأخبره بإسلامه، فلم يلبث جميل حتى عمد إلى المسجد؛ فنادى أندية قريش، فقال: يا معشر قريش! إنَّ ابن الخطاب قد صبأ.
فقال عمر: كذب، ولكني أسلمت وآمنت بالله، وصدقت رسوله.
فقاتل المشركون عمر وقاتلهم حتى فتر وجلس، فقاموا على رأسه يريدون مواصلة أذاه، فقال لهم عمر: " افعلوا ما بدا لكم؛ فوالله لو كنا ثلاث مائة رجل لقد تركتموها لنا أو تركناها لكم"
وبينما هم كذلك إذ جاء العاص بن وائل فقال: ما بالكم؟
فقالوا: "إن ابن الخطاب قد صبأ!!
قال: فمه! امرؤ اختار ديناً لنفسه؛ أفتظنون أن بني عدي تسلم إليكم صاحبهم؟!". رواه ابن حبان.
فرد العاص بن وائل
القوم عن عمر، وتولوا عنه وتركوه حين ذكرهم العاص بنسب عمر ومكانته بين
العرب، فهو من بني عدي من أشراف قريش؛ فهو ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى
بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عديّ بن كعب بن لؤي بن غالب بن
فهر.
وبهذا يلتقي نسبه مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب بن لؤي.
وما زال عمر بن الخطاب يجهر بإسلامه عند البيت الحرام ويمنع المشركين من أذى المسلمين
حتى قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: «مازلنا أعزة منذ أسلم عمر». رواه البخاري.
وقال : «لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر؛ فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي». رواه ابن سعد في الطبقات.
فبأي شيء سبق عمر
حتى صار الرجل الثاني في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر
الصديق رضي الله عنهما- ولم يكن الأسبق إسلاما ؟!
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «أما والله ما كان بأقدمِنا إسلاماً، ولكن قد عرفت بأي شيء فضلنا، كان أزهدنا في الدنيا يعني عمر بن الخطاب». رواه ابن أبي شيبة.
وقال الحسن: «والله
ما كان بأوَّلهم إسلاماً ولا بأفضلهم نفقة في سبيل الله، ولكنه غلب الناس
بالزهد في الدنيا، والصرامة في أمر الله، ولا يخاف في الله لومة لائم». رواه ابن أبي شيبة.
وهذه الصرامة في
أمر الله وألا يخشى المرء في الحق لومة لائم، لا تكون إلا في زاهد في
الدنيا؛ لأنه لا يخشى أن يفوته شيء من حظوظ الدنيا وهو قد زهد فيها فعلا في
سبيل نصرة الحق وثباته.
في الحديث الذي رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشدهم في أمر الله عمر). رواه أبو داوود الطيالسي، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي في السنن الكبرى.
وهكذا كان عمر منذ
أبصر الحق واتبعه، حتى حملته شدته هذه في الحق على مراجعة رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وخليفته أبي بكر -رضي الله عنه- في بعض الأمور، وُفق في
أكثرها، وخالفه التوفيق في بعضها.
عمر المحدّث المُلهم
عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: « قد كان يكون في الأمم قبلكم محدَّثون؛ فإن يكن في أمتي منهم أحد؛ فإنَّ عمر بن الخطاب منهم». رواه البخاري ومسلم واللفظ له.
التحديث والإلهام هو أن يُلهم العبد الحق من الله عز وجل فيما يعرض له من الأمور.
وعُرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأن القرآن نزل موافقًا لرأيه في عدة مواضع.
وتصور هذا الأمر ...
تحصل حادثة ما، فيرى عمر رأيًا؛ فينزل القرآن كلام الله -عز وجل- موافقًا لرأي عمر !
ما أعظمها من منقبة ؟!
عن ابن عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله عزّ وجلّ جعل الحق على قلب عمر ولسانه)).
وقال ابن عمر: (ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر بن الخطاب إلا نزل القرآن على نحو مما قال عمر). رواه أحمد والترمذي وابن حبان.
فلنتوقف أمام هذه المواقف ونلتمس منها ما يقوينا على الثبات على الحق بإذن الله.
(1)
كان في المدينة عدد
من المنافقين منهم من أعلم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بنفاقهم،
ومنهم من علم الصحابة رضوان الله عليهم بنفاقهم، ومن هؤلاء (عبد الله بن
أُبي بن سلول)، وكان ابنه، واسمه عبد الله أيضًا مسلمًا، فلما تُوفي عبد
الله بن أبي، جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله أن يصلي عليه.
ويروي لنا عبد الله بن عمر هذا المشهد وكيف كان موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: لما
توفي عبد الله بن أبي، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه؛ فأعطاه، ثم سأله أن
يصلي عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ
بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله تصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إنما خيرني الله فقال: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة}، وسأزيده على السبعين)).
قال: إنه منافق!
قال: فصلَّى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا، ولا تقم على قبره}). رواه البخاري، ومسلم.
معاذ الله أن يكون
عمر جريئًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، جرأة المتجاوز حدّه، ولكنها
شدته في الحق، شدته النابعة من صدق محبته لله ورسوله وتقديم هذه المحبة
حتى على نفسه كما سبق وبينت في بداية هذا المقال ...
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه معلّقا على هذا المشهد: (فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم). رواه البخاري.
اجتهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم الذي أرسله ربه رحمة للعالمين، لعل الله ينقذ به نفسًا
من النار، لكن أمر الله سبق، أنه لا يغفر لمن أشرك.
ووفّق الله -عز
وجل- عمر وبصّره بالحق، ولم يكتم -رضي الله عنه- النصيحة، ولم يخش في الله
لومة لائم، فنزل القرآن موافقًا لرأيه، فسبحان الله العليم الحكيم.
(2)
قال حميد الطويل: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (وافقت ربي في ثلاث: فقلت يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}وآية
الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهن البر
والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في
الغيرة عليه، فقلت لهن: (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن)،
فنزلت هذه الآية). رواه أحمد والبخاري من طرق عن حميد.
هنا ثلاثة مواقف
نزل القرآن موافقًا لرأي عمر رضي الله عنه، ولو أعدت تأمل الموقف الثاني
والثالث تزداد عجبًا من غيرة عمر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه
وسلم، ويزيدك هذا يقينًا بصدق محبته للنبي صلى الله عليه وسلم وعدم خشيته
في الله لومة لائم.
ومع هذا قدّر الله عز وجل أن يكون الكمال له وحده، وأن يكون لعمر المحدّث الملهم مواقف يجانب فيها الصواب.
ومن الجيد أن نتوقف أمامها وننظر كيف يكون موقف عمر رضي الله عنه، لنتعلم منه كيف نتحرى الحق حتى نُوفق إليه بإذن الله.
(1)
الموقف الأول في صلح الحديبية
لما قرر رسول الله
صلى الله عليه وسلم الصلح مع المشركين في الحديبية، استجابة لأمر ربه، وقد
وضع المشركون شروطًا مجحفة، يبدو من ظاهرها إلحاق الضر بالمسلمين، علاوة
على أنهم سيعودون دون الوصول إلى البيت الحرام وأداء العمرة التي خرجوا
لأجلها، وحزن المسلمون لذلك حزنا شديدًا، حتى أنزل الله في قلوبهم السكينة
وعلموا أنه أمر الله ورسوله ولا يكون فيه إلا الخير
وكان عمر رضي الله عنه، كما هو شأن غالب الصحابة يرجو ألا يقبل بهذه الشروط المجحفة ولا يعود دون دخول البيت.
فماذا فعل؟
((أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ألست رسول الله حقا،
قال: «بلى» ،
قال: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟،
قال: «بلى» ،
قال: فلم نعطي الدنية في ديننا،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني رسول الله، ولست أعصي ربي، وهو ناصري» ،
قال عمر رضي الله عنه: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت، فنطوف به؟،
قال: «بلى» ، فخبرتك أنك تأتيه العام،
قال: لا،
قال: فإنك تأتيه، فتطوف به،
قال عمر رضي الله عنه: فأتيت أبا بكر الصديق رضوان الله عليه،
فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا،
قال: بلى، قلت: أو لسنا على الحق، وعدونا على الباطل،
قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا،
إذا قال أبو بكر رضي الله عنه: أيها الرجل إنه رسول الله، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، حتى تموت، فوالله إنه على الحق،
قلت: أو ليس كان يحدثنا، أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟، قال: بلى، قال: فأخبرك أنا نأتيه العام، قلت: لا، قال: فإنك آتيه، وتطوف به)). رواه ابن حبان في صحيحه وصححه شعيب الأرناؤوط.
وهنا تتوقف أمام
مراجعة عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم لأبي بكر الصديق؛
يتحرى الحق حتى يقف عنده ويثبت عليه، وهكذا كان عمر !
(2)
الموقف الثاني عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالت عائشة رضي الله عنها: ((مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ بالسُّنْحِ،
فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَتْ عائشة رضي الله عنها: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ، فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ،
فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ " فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ، قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُذِيقُكَ اللَّهُ المَوْتَتَيْنِ أَبَدًا،
ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ،
فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ،
فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: أَلا
مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ
مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ
حَيٌّ لاَ يَمُوتُ،
وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}[الزمر: 30]، وَقَالَ: {وَمَا
مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ
مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ
عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ
الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144])). رواه البخاري.
فلما تكلّم أبو بكر جلس عمر !
يعرف قدر أبي بكر، ويرجو أنه سيتكلم بما يثبت القلب، في هذا الموقف العصيب، وقد كان ... وهكذا كان عمر !
وروى البخاري في صحيحه -معلقا- عن عائشة رضي الله عنها، قالت:
"فما كانت من خطبتهما من خطبة إلا نفع الله بها لقد خوف عمر الناس، وإن
فيهم لنفاقا فردهم الله بذلك، ثم لقد بصر أبو بكر الناس الهدى، وعرفهم الحق
الذي عليهم وخرجوا به، يتلون {وما محمد إلا رسول، قد خلت من قبله الرسل}[آل عمران: 144] إلى {الشاكرين}[آل عمران: 144] "
تعني بـ "خطبتهما" خطبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وفي هذه الرواية
بيان لسبب موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنه خشي فتنة الناس، فحملته
خشيته على الشدة ولم يبصر ما أبصره أبو بكر -رضي الله عنه-، والله أعلم.
(3)
الموقف الثالث في حروب الردة
يروي أبو هريرة رضي
الله عنه قصة قرار أبي بكر رضي الله عنه بالحرب، فيقول: ((لما تُوفِّي
رسول الله صلى الله عليه وسلم واستُخلِف أبو بكر بعده، وكفر من كفر من
العرب،
قال عمر لأبي بكر: كيف تقاتل الناس؟وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه، إلا بحقه وحسابه على الله "،
فقال:
والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو
منعوني عِقَالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم
على منعه،
فقال عمر: «فوالله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق»)) رواه البخاري ومسلم.
يراجع عمر رضي الله عنه أبا بكر رضي الله عنهما؛ يريد الحق !
يذكره بحديث النبي
صلى الله عليه وسلم؛ فيرشده أبو بكر أن القوم خالفوا مقتضى شهادتهم بأن لا
إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فيرى عمر ثبات أبي بكر وانشراح صدره،
فيقول: (فعرفت أنه الحق).
وماذا يريد عمر سوى الحق فيتبعه !
وهذا هو عمر !
(4)
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم
عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر؛ فنزل على ابن أخيه الحرّ بن قيس بن حصن،
وكان من النفر الذين يُدنيهم عمر، وكان القراء أصحابَ مجلس عمر ومشاورته،
كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي! هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟
قال: سأستأذن لك عليه.
قال ابن عباس: فاستأذنَ لعيينة؛ فلما دخل، قال: "يا ابن الخطاب! والله ما تعطينا الجزل، وما تحكم بيننا بالعدل"؛ فغضب عمر حتى همَّ بأن يقع به، فقال الحر: يا أمير المؤمنين! إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وإنَّ هذا من الجاهلين؛«فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله». رواه البخاري في صحيحه.
وكان وقّافا عند كتاب الله!
وقافا أي كثير الوقوف … لا يتجاوز الآية حتى يتبع ما فيها.
ولماذا لا يتبعها وهو ما أراد منذ أسلم إلا اتباع الحق؟!
وهو الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بكمال محبته لله ورسوله !
وهكذا كان عمر !
فإذا كان هذا عمر رضي الله عنه المحب لله ورسوله المحدّث الملهم الذي يتحرى الحق ويقف عند كتاب الله
كيف تظن حاله مع القرآن وماذا قدّم للقرآن وأهل القرآن؟
(1)
أشار على أبي بكر رضي الله عنه بجمع القرآن في مصحف واحد بعد حروب الردة
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة؛ فإذا عمر بن الخطاب عنده».
قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن
القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل
بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.
قلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.
قال عمر: هذا والله خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر). رواه البخاري في صحيحه.
(2)
خشيته من القول في القرآن بغير علم
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (( أن عمر بن الخطاب، قرأ على المنبر {وفاكهة وأبا} [عبس: 31] فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب؟، ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر)). رواه أبو عبيد القاسم في فضائل القرآن.
(3)
تأديبه لمن يقول في القرآن بغير علم
أخرج الإمام أحمد
في فضائل الصحابة من طريق يزيد بن خصيفة، عن السائب بن يزيد أنه قال: أُتى
إلى عمر بن الخطاب، فقالوا: يا أمير المؤمنين! إنا لقينا رجلاً يسأل عن
تأويل القرآن.
فقال: اللهم أمكني منه.
قال: فبينا عمر ذات يوم جالس يغدّي الناس إذ جاءه وعليه ثياب وعمامة، فغداه، ثم إذا فرغ قال: يا أمير المؤمنين، {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا}؟
قال عمر: أنت هو؟ فمال إليه وحسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته، ثم قال: احملوه حتى تقدموه بلاده، ثم ليقم خطيباً ثم ليقل: إنَّ صبيغاً ابتغى العلم فأخطأ، فلم يزل وضيعاً في قومه حتى هلك، وكان سيد قومه).
وأخرج الدارمي من
طريق يزيد بن حازم، عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ قدم المدينة؛
فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر رضي الله عنه وقد أعدَّ له
عراجين النخل، فقال: من أنت؟
قال: أنا عبد الله صبيغ.
فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين، فضربه وقال: (أنا عبد الله عمر) فجعل له ضرباً حتى دمي رأسه.
فقال: (يا أمير المؤمنين! حسبك، قد ذهب الذي كنتُ أجد في رأسي).
(4)
تقديره وتوقيره لأهل القرآن
كان عمر بن الخطاب رضي الله شديد التوقير لأهل القرآن حتى قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما: (وكان القراء أصحابَ مجلس عمر ومشاورته، كهولاً كانوا أو شباناً). رواه البخاري.
وعبد الله بن عباس
رضي الله عنهما كان عمره تقريبًا ثلاث عشر سنة حين تولى عمر رضي الله عنه
الخلافة، وكان يقدمه في مجلسه على الشيوخ، حتى تكلموا في ذلك فجمعهم ذات
مرة، ليعلمهم قدره.
قال عبد الله بن
عباس: "كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال لِمَ يدخل
هذا معنا إن لنا أبناء مثله فقال عمر: إنه ممن علمتم، ودعاهم ذات يوم
فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم، فقال:ما تقولون في قول الله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح}؟، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذلك تقول يا بن عباس؟، فقلت: لا، فقال: ما تقول؟، فقلت: هو أجل رسول الله أعلمه به، قال: إذا جاء نصر الله والفتح فذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا،
فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول". رواه البخاري.
وقال إبراهيم
النخعي عن علقمة قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات فقال: جئت يا أمير
المؤمنين من الكوفة، وتركت بها رجلا يملي المصاحف عن ظهر قلبه؛ فغضب عمر
وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شعبتي الرحل.
فقال: ومن هو ويحك؟ قال: عبد الله بن مسعود. فما زال يطفأ ويسرى عنه الغضب، حتى عاد إلى حاله التي كان عليها). رواه أحمد.
وذلك لأن عبد الله
بن مسعود من كبار الصحابة ومن معلمي القرآن الذين وصى بهم رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وأرسله عمر بن الخطاب إلى الكوفة معلمًا، وإنما كان غضب
عمر رضي الله عنه في البداية لظنه أنه تصدر لهذا الأمر من ليس أهله، فلما
علم أنه عبد الله بن مسعود هدأ واطمأن.
(5)
نشره للمعلمين في الأمصار التي تُفتح بفضل الله وأثر هذا في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية على اتساعها في زمانه
أخبار عمر رضي الله
عنه في خلافته كثيرة، ولا ينقضي منها العجب حين تقف أمام توفيق الله عز
وجل وتسديده، وتقف أمام زهده في الدنيا وورعه من أن يصيب شيئا من أموال
المسلمين أو يقصر فيما كلفه الله به، لكن مع كل هذا قلما يتوقف الكُتاب في
سيرته أمام عمل عظيم جدًا لا يقل أهمية عن اتساع الفتوحات الإسلامية في
عهده، ولا عن المدن التي بناها والحصون التي شيدها، فلا معنى لهذه الفتوحات
إذا لم يؤيدها ببعث المعلمين يفتحون القلوب -بإذن الله- بالقرآن؛
فيتعلمون الإسلام كما أنزل الله، ويُعلمون أجيالا من بعدهم.
يرسل عمر رضي الله عنه المعلمين ويوصيهم بالناس، ويوصي الناس بمعلميهم، فانتشر الإسلام وثبت بفضل الله.
أرسل عمر بن الخطاب أبا الدرداء ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت إلى الشام وقال لهم: (ابدأوا
بحمص؛ فإنكم ستجدون الناس على وجوه مختلفة، منهم من يلقن فإذا رأيتم ذلك
فوجهوا إليه طائفة من الناس؛ فإذا رضيتم منهم فليقم بها واحد، وليخرج واحد
إلى دمشق، والآخر إلى فلسطين). رواه ابن سعد في الطبقات.
وقال حارثة بن مضرب العبدي: قرئ علينا كتاب عمر ههنا [يريد بالكوفة]: «
إني بعثتُ إليكم عمارا أميراً، وبعبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، وهما
من النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر فاسمعوا لهما وأطيعوا، وآثرتكم بابن
أم عبد على نفسي، وجعلته على بيت مالكم». رواه أحمد في فضائل الصحابة وابن أبي شيبة في المصنف من طريق سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن حارثة.
ختامًا …
لعلك الآن علمت سر عمر المحدّث الملهم
عمر الذي اشتهر بعدله في خلافته وتوفيقه وسداده
حتى عجب السلف
والخلف كيف يسوق الله قدميه إلى مواضع حاجة رعيته، حين كان يعس بالليل،
ويتفقدهم بنفسه، أو كيف يسوق رعيته إليه فيشكون إليهم حالهم فيقتص لهم ممن
ظلمهم.
عمر المُوفّق المُسدد
هذا التوفيق والسداد ليس إلا ثمرة قلب تخلى عن هواه يوم قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله لأنت الآن أحب إلي من نفسي)
قلب تخلى عن هواه فزهد في الدنيا ولم يخش في الله لومة لائم
أحب الله ورسوله فأحبه الله عز وجل
قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}
المحبة والاتباع هما ما جعل عمر رضي الله عنه الذي عُرف بشدته، رحيمًا برعيته ويواسيهم بنفسه
قال عبد الله بن
عباس رضي الله عنهما قال: (بينما أنا أمشي مع عمر رضي الله عنه ذات يوم وهو
يضرب وحشي قدمه بالدرة، تنفس تنفسة ظننت أنها قد قضّت أضلاعه، فقلت:
سبحان الله! وما أخرج هذا منك يا أمير المؤمنين إلا أمر عظيم!
قال: (ويحك يا ابن عباس! والله ما أدري كيف أصنع بأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟).
قلت: والله إنك بحمد الله لقادر على أن تصنع ذاك منها في البقية.
قال: (إنه والله يا ابن عباس ما يصلح لهذا الأمر إلا القوي في غير عنف، اللين في غير ضعف، الجواد في غير سرف، الممسك في غير بخل).
يقول ابن عباس: «والله ما أعرفه غير عمر». رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة من طريق إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس به.
فاللهم ارزقنا صدق محبتك ومحبة نبيك، واهدنا وسددنا لما تحب وترضى.
المراجع:
- صحيح البخاري.
- صحيح مسلم.
- مسند الإمام أحمد.
- فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام.
- صحيح ابن حبان.
- مجمع الزوائد للهيثمي.
- طبقات القراء والمفسرين للشيخ عبد العزيز بن داخل المطيري.
- سير أعلام المفسرين للشيخ عبد العزيز بن داخل المطيري.
التعليقات ()